حرب جديدة: ديستوبيا وسائل التواصل الاجتماعي/ حسام أبو حامد
بات الروتين اليومي، لأكثر من نصف سكان العالم (الذين يستخدمون الإنترنت)، الوصول إلى هواتفهم النقالة منذ استيقاظهم، والتحقق من إشعاراتهم، وحساباتهم، على وسائل التواصل الاجتماعي. يتصفحون، يبدون إعجابهم، يعلّقون، يشاركون، يغردون، وما إلى ذلك. أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تحتل الحيّز الأكبر من حياتنا، ولا يستطيع معظمنا العيش من دونها. وقد برهنت خلال انتشار الوباء، وظروف الحجر الصحي، كم كانت شريان الحياة الرئيسي لمعظمنا. وآخر إحصاءات “Hootsuite”، المتخصصة برصد أنشطة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، عن حالة الإنترنت حول العالم لعام 2020، ذهبت إلى أن عدد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم بات يشكل نسبة تصل إلى 87% من إجمالي عدد مستخدمي الإنترنت حول العالم، والمقدر عددهم بحوالي 4.6 مليار مستخدم. أي بزيادة وقدرها 11% خلال سنة.
في عام 2011، ومع انطلاق الربيع العربي، انفجرت قوة وسائل التواصل الاجتماعي لدفع التغيير السياسي، وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي المتظاهرين المتمسكين بالديمقراطية على تبادل المعلومات، وتنظيم الاحتجاجات، لتحرير أنفسهم من الديكتاتوريات. ومع ذلك، سرعان ما ثبت أن العديد من المكاسب الديمقراطية في جميع أنحاء العالم العربي غير مستدامة، أو متورطة في العنف. ظهر وجه آخر سلبي من التكنولوجيا، وفي غضون بضع سنوات، كان تنظيم داعش يستخدم الإنترنت لتجنيد الأتباع، ونشر الدعاية، وتشجيع الهجمات في أنحاء متفرقة من العالم، وتزايدت الهجمات السيبرانية بين الدول المتنافسة والمتصارعة على الساحة الدولية. لم تطل تلك الهجمات الدول والمؤسسات الحكومية وحسب، بل أيضًا المصالح الخاصة والمجتمعات والأفراد، بعد أن تحولت شبكات الإنترنت إلى ساحة حروب في القرن الحادي والعشرين.
بيرل هاربر الجديدة
في عام 2018، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية العام عن استراتيجية أمن سيبراني وصفها مستشار الرئيس الأميركي الأسبق للأمن القومي، جون بولتون، بأنها “مفصلية بالكامل خلال الـ15 سنة الماضية”. ورغم دخول تلك الاستراتيجية حيّز التنفيذ، كشف مسؤولون حكوميون أميركيون في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي (2020) عن تعرض البلاد لهجوم سيبراني طال وزارات الخارجية والخزانة والأمن الداخلي، والتجارة، بالإضافة إلى وكالة الصحة الوطنية
“كشف مسؤولون أميركيون في ديسمبر الماضي عن تعرض البلاد لهجوم سيبراني طال وزارات الخارجية والخزانة والأمن الداخلي، والتجارة”
وغيرها، بينما التزم البنتاغون الصمت حيال تأكيد، أو نفي اختراق، أي من شبكاته. عمليات القرصنة التي تضمّنها الهجوم بدأت منذ آذار/ مارس من العام الماضي، لكن لم يتم رصدها إلا بعد مضي تسعة أشهر، ووصفت أوساط أميركية الهجوم بأنه “بيرل هاربر جديد”. براعة القراصنة السيبرانيين في تغطية آثارهم لم تسمح للمسؤولين الأميركيين بامتلاك أدلة حاسمة عمن يقف وراء الهجوم، رغم أن مسؤولين رفيعي المستوى وجّهوا أصابع الاتهام إلى روسيا، التي نفت ضلوعها فيه. حتى الآن، لم يتضح حجم الضرر النهائي من عمليات القرصنة التي شملها الهجوم السيبراني، ولا ما هي المعلومات التي تمّت سرقتها، ومدى حساسيتها، وقد يحتاج ذلك إلى أشهر مقبلة قد تطول. من بين ضحايا الهجوم، هنالك شركات استشارات تكنولوجية، واتصالات، ونفط، وغاز، في أوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط.
شهد العقد الماضي هجمات سيبرانية متزايدة بدا معها العالم يعيش حروبًا غير تقليدية يزداد وطيسها بين دول تحتدم بينها أساسًا حروب تقليدية. كما تعرّضت بعض الدول، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، لهجمات إلكترونية، وجهت أصابع الاتهام فيها نحو دول مثل روسيا والصين.
ما يشبه الحرب
في كتابهما “ما يشبه الحرب: تسليح مواقع التواصل الاجتماعي”، يتتبع كل من بيتر سينجر، وإميرسون بروكينغ، تاريخ منصات وسائل الإعلام الاجتماعي، وتوظيفها في الثقافة الشعبية، والهوية، والصراع الحديث، مقارنة بحجم تأثير تقنية التواصل الكلاسيكية، كالتلغراف والراديو والتلفاز، محاولين توضيح كيف أن وسائل الإعلام، وقد أصبحت منصة لجمع المعلومات، ومركزًا للاستهداف وأنشطة القيادة والتحكم، فباتت تشكّل السياسات العالمية، وترسم ديناميات الصراعات المعاصرة.
في رأي سينجر، وبروكينغ، أصبح الإعلام بامتياز أداة لاستنزاف الروح المعنوية لـ”العدو”، تستهدف مراكز ثقله ممثلة بعقول وأرواح الشعب، وللتلاعب بالتحيّزات المعرفية للسكان، والتأثير على توجهاتهم واختياراتهم، بل وتجنيدهم، وبلبلة صفوفهم سياسيًا وخوارزميًا، مما يحقق فرصًا لتحقيق الأهداف السياسية من دون خسائر. ومع حفاظ وسائل التواصل الاجتماعي لفترة طويلة مقبلة على مركزيّتها في شأن نظم المعلومات، فإن “ما يشبه الحرب” سوف تغير من تقييم الحروب التقليدية استنادًا إلى فاعليتها مع سرعة انتشار المعلومات، ومدى انتقالها، ومدى سهولة الوصول إليها، مما يفرض على المخططين الاستراتيجيين إعادة صياغة سياساتهم في شأن الخطط التشغيلية العسكرية، والحملات الإعلامية والسياسية. وباتت المفاجآت العسكرية الكبرى شبه مستحيلة، بعد أن أصبح من الصعب الحفاظ على السريّة.
وحول الخريطة السيبرانية الراهنة، يعتقد الكاتبان أن روسيا تحاول تغيير موازين القوى التي
“في رأي سينجر، وبروكينغ، أصبح الإعلام بامتياز أداة لاستنزاف الروح المعنوية لـ”العدو”، تستهدف مراكز ثقله ممثلة بعقول وأرواح الشعب، وللتلاعب بالتحيّزات المعرفية للسكان، والتأثير على توجهاتهم واختياراتهم”
هي حتى الآن ليست في صالحها في مواجهة حلف الناتو، لتصبح الدولة الأكثر تقدمًا في إتقان هذا النوع من الصراع، حيث تمكّنت من اختراق الداخل الأميركي، والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، عبر إشعال احتجاجات في العالم الحقيقي، وتوجيه العديد من دورات الأخبار الأميركية، والتأثير على الناخبين. ومن خلال هجمات أخرى منظمة، تمكّنت من إثارة المشاعر المعادية لحلف الناتو في ألمانيا، وأججت الكراهية السياسية للأقليات الروسية العرقية في إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وغيرها. ويشير الكاتبان إلى أن الرئيس ترامب أتقن إدارة هذا النوع من الصراع، من حيث إدراكه لقوة وسائل الإعلام الاجتماعية، أكثر من أي رئيس أميركي آخر، فتمكّن من تعويض خسارته للناخبين اللاتينيين ببرامج وهمية على “تويتر”، سهّلت من دعمهم له، في حين وظّف “البوتات”(*) في جذب اهتمام الصحافيين والمانحين من جميع أنحاء البلاد. وبمساعد “كامبريدج أناليتيكا”، الشركة المتخصصة في تحليل البيانات، تمكّن من ضبط إيقاع حملته الانتخابية، كما وظّف عبر الإنترنت عملاء روسًا تظاهروا بأنهم ناخبون أميركيون. تابع ترامب تعويله على وسائل التواصل الاجتماعي بعد فوزه عام 2016، واستغلها لتعبئة قاعدة صغيرة، لكنها لامعة بشدة، وفي تنسيق سياسته (الشعبوية) من خلال تضخيم نظريات المؤامرة القومية، ومهاجمة الصحافة.
ديستوبيا وسائل التواصل الاجتماعي
يعتقد سينجر وبروكينغ أن وسائل التواصل الاجتماعي تحولت من يوتوبيا، من حيث حرية تبادل المعلومات، إلى ديستوبيا، حين صار في إمكان المستبدّين استخدام الرقابة والمعلومات المضللة بفعالية للتأثير على الإرادة، والحفاظ على السلطة، والسيطرة المحلية والدولية. كنموذج، يحدد الكاتبان أربعة مبادئ لسياسة التضليل الروسية، ممثلة في: تجاهل النقد،
“وسائل التواصل الاجتماعي تحولت من يوتوبيا، من حيث حرية تبادل المعلومات، إلى ديستوبيا، حين صار في إمكان المستبدّين استخدام الرقابة والمعلومات المضللة بفعالية للتأثير على الإرادة، والحفاظ على السلطة”
وتحريف الحقائق، وصرف الانتباه عن القضية الرئيسية، وإثارة الفزع بين الجمهور. يعتقد الباحثان أن أنظمة دول نحو: إسرائيل، وأوكرانيا، ودول شرق أوسطية، وعربية، تسير على النهج الصيني في سياسة دمج وسائل التواصل الاجتماعي في عمل أجهزتها الأمنية، وخلق الشمولية اجتماعيًا. أساليب “ما يشبه الحرب” هذه لم تقتصر على الدول وسياسييها، بل أيضًا توافرت لدى الكيانات غير الدولتية، فتنظيم داعش استخدم بشكل فعّال برامج البوتات، لنشر أيديولوجيته عبر “تويتر”، وفرض تواجده في الساحة الدولية عام 2014، مجندًا المقاتلين، وجامعًا للأموال. في المقابل، كان على الدول التي جابهت التنظيم عدم الاكتفاء بالهجمات العسكرية التقليدية، بل أيضًا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتقويضه، وتجفيف منابعه.
يخلص الكاتبان إلى أن الإنترنت يصبح أكثر عالمية وفورية، وجزءًا لا يتجزأ من مجالات الاقتصاد والتنمية السياسة للمجتمعات، وتعمل وسائل التواصل الاجتماعي المرتبطة به على تغيير طرق خوض النزاعات جنبًا إلى جنب مع معدلات منخفضة من السرية وامتصاص في انتشار المعلومات، ففي عصر “ويكيليكس” هنالك قدرة متناقصة لإخفاء المعلومات يتم الكشف عنها يكون لها عواقب واسعة النطاق، مما يغير معنى الحرب، ويطمس التمييز بين الإجراءات المتخذة في العوالم الرقمية والمادية، والجميع جزء من هذا الواقع الجديد/ الحرب الجديدة.
المواجهة
يستعرض الباحثان مساعي بعض الدول واستجاباتها المختلفة للتعامل مع هذه الحرب الجديدة، منها تلك التي تجاوزت عملية إعادة التنظيم العسكرية نحو: فنلندا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا،
“هنالك مسؤولية يراها الباحثان على عاتق الأفراد العاديين، بوصفهم “مقاتلين” في هذه الحرب الجديدة، وضرورة تحلّيهم بالوعي بما يشاركونه وينشرونه ويتفاعلون معه”
والسويد، إلى العمل على تحصين مجتمعاتها ضد تهديدات المعلومات، لا سيما التي تقف وراءها روسيا، عبر بذل مزيد من الجهود في مجال الوقاية، وبرامج تثقيف المواطنين، ومراقبة حملات التضليل الأجنبية، وحمايات الانتخابات، والشفافية القسرية لأنشطة الحملات السياسية، وسن قوانين للحد من تأثير المواد المضللة، ويحثّان باقي الدول على إبداء أمثال تلك الاستجابة الإيجابية. أما في ما يخص القطاع الخاص العامل في هذه التكنولوجيا الاجتماعية، فيرى الباحثان أنه مطالب بالتفكير بشكل استباقي في التداعيات السياسية والاجتماعية والأخلاقية للخدمات التي يقدمها، وإعادة تقييم ذاتي لأساليب عمله، لا سيما بعد تجاهل العديد من شركات هذا القطاع للشكاوى، والإنذارات الموجّهة لهم، حول وجود منشورات تتراوح بين بث الكراهية والتحرش. هنالك مسؤولية يراها الباحثان على عاتق الأفراد العاديين، بوصفهم “مقاتلين” في هذه الحرب الجديدة، وضرورة تحلّيهم بالوعي بما يشاركونه وينشرونه ويتفاعلون معه، إذ يملك كل الفرد قدرة على التأثير في ما يعرفه الآخرون ويفعلونه.
السيبرانية إقليميًا
عملت العوامل الجيوسياسية المرتبطة بالعالم السيبراني، على وجه الخصوص، على صوغ العلاقة بين إيران وجيرانها. فمنذ عملية إطلاق “فيروس ستوكسنت” (Stuxnet) في عام 2010، التي كشفت عن مدى سهولة تعرّض إيران إلى التدخل الأجنبي عبر الفضاء السيبراني، قامت، كل من إيران وإسرائيل، ببناء وتعزيز مكاسبهما كقوى متكاملة في هذا المجال، فأصبحتا الأكثر تفوقًا فيه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
دمجت إسرائيل هذا الفضاء في الجهد الأمني والعسكري والعملياتي، مع ذلك لم تكن محصنة أمام الهجمات الإلكترونية، كما تبين إبان هجوم “أنونيموس” عام 2011، وهجوم آخر شنته مجموعات قراصنة متحالفة مع “أنونيموس” عام 2013. تمكّن القراصنة في تلك الهجمات من اختراق مواقع إسرائيلية حساسة، وقرصنة معلومات ونشرها، وتعطيل مواقع ومصالح حكومية وتجارية إسرائيلية، وتوجيه رسائل تضامن مع الشعب الفلسطيني. أضافت تلك الهجمات شكلًا إضافيًا من أشكال المقاومة في مسار الصراع العربي- الإسرائيلي، وأثبتت أنه في الإمكان اختراق حدود الاحتلال الجغرافية المحصنة بإمكانات الحرب التقليدية بوسائل غير تقليدية، وأقل كلفة.
تحاول دول أخرى في المنطقة اللحاق بالركب، وتجتهد الدول العربية لامتلاك بنى تحتية لتنفيذ عمليات مراقبة واسعة النطاق بذريعة حماية الأمن القومي، لإخضاع مواطنيها وضبط إيقاعهم اليومي، وسن تشريعات لخدمة أهداف الدولة، لا لحماية المجتمع. لكنها لا تزال دون امتلاكها لاستراتيجيات الأمن السيبراني التي تحمي شبكاتها وخوادمها الخاصة، فضلًا عن البيانات الشخصية لمواطنيها. ومع احتمالات الحروب السيبرانية المتعاظمة تحتاج الدول العربية إلى سن تشريعات وقواعد تنظيمية وسياسات جادة للعناية بالأمن السيبراني، تحفظ سلامة البنى التحتية، وتشمل الحقوق الرقمية لمواطنيها.
خاتمة
لقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي تغيرًا حقيقيًا في موازين القوى، وغيّرت من انتشار السلطة وتوزيعها، حتى يبدو أننا جميعًا نمتلك قدرًا منها، بعد أن كنا نخضع لسلطة التلفزيون، أو الصحيفة، أو الراديو، أصبحنا كأفراد جامعين للمعلومات، ومشاركين لها، تحدد قراراتنا الفردية الاتجاهات العامة التي تضبط ما ينتشر، أو ما لا ينتشر، فبتنا مقاتلين في ساحة معركة المعلومات، لكننا أيضًا عرضة للهزيمة في هذه المعركة، طالما توفّر وسائل التواصل الاجتماعي مساحة كبيرة لفرص طمس الموضوعية، واستغلال التحيزات الموجودة مسبقًا، خصوصًا أن تقنيات الذكاء الصناعي اصطفّت على كلا الجانبين، بين مهاجم ومدافع؛ بين كونها “تقنيات تحرير” للحركات الاجتماعية، وبين استخدامها أداة للحكومات والمستبدين لقمع المعارضة ونشر المعلومات المضللة.
هامش:
(*) تعملُ حسابات البوت هذه علَى تنفيذ مجموعة من الإجراءات مثلَ التغريد، إعادة التغريد، الإعجاب، إلغاء متابعة، أو المراسلة المباشرة مع حسابات أخرى.
إحالات مفيدة:
1- P.W.Singer and Emerson T. Brooking, “LikeWar: The Weaponization of Social Media” (Eamon Dolan/Houghton Mifflin Harcourt, October 2nd 2018).
2- Mark Silverman, “LikeWar: The Weaponization of Social Media P. W. Singer and Emerson T. Brooking”, Cambridge University Press, 14 November 2019: https://bit.ly/39x4xnq
3- Gabby Deutch, “Social Media Has Become a Global Battlefield”, The Atlantic, October 2, 2018: https://bit.ly/38QaHjp
4- Brett van Niekerk & Manoj Maharaj, “Social Media and Information Conflict”, International Journal of Communication 7 (2013), PP.1162–1184.
5 – خالد وليد محمود، “الهجمات عبر الإنترنت: ساحة الصِّراع الإلكترونيِّ الجديدة”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على الرابط: https://bit.ly/2LZl0bQ
ضفة ثالثة